القاص اشويكة ينتقد طقوسا بالمجتمع المغربي



جاء القاص المغربي محمد اشويكة إلى جنس القصة القصيرة من عالم الفلسفة بوصفها تخصصا ومادة تدريس، وبما أن تكوينه كان في غير الأدب، فقد استحال عليه التخلص من أم العلوم، وظل يناوش جنس السرد العصي من خلال اهتمامه بالدرس الفلسفي وجديده، حيث يكتب القصة وفكره موصول دائما بالتساؤل والاستفسار والتأمل الباطني في السلوكيات والطقوس المجتمعية المحيطة به.

لذلك فهو لا يكتب القصة بالشكل المعهود في الأدبيات النقدية التقليدية، بل يجعل القصة نفسها محط سجال، مثلما يجعل ذاته أيضا محل النقد والتشخيص والسخرية.. ينتهج كتابة تهزأ بالقوالب وتثور على المعتاد سعيا وراء زعزعة أنظمة التفكير المسالمة والمهادنة التي لا تكلف أصحابها حتى مجرد التساؤل.
هذه الرؤية بقدر ما تحكم المنجز النصي ككل لدى الفيلسوف والقاص اشويكة، فهي أيضا تشتغل في نصوص مجموعته الأخيرة "درجات من واقعية غير سحرية".
قيم مستهجنةيهاجم اشويكة في هذه النصوص السردية المفتوحة التقاليد المتخلفة التي تكبل العقل البشري وتتكرر جيلا بعد جيل في مجتمع مغربي يتوق إلى التحرر والنزوع نحو الحداثة. ففي نظره، تبعا لما ورد بالمتون، لا تزال غالبية المجتمع تفكر بنفس نمط إنسان القرون الوسطى رغم مظاهر العولمة المزيفة التي تختفي وراءها أقنعة التخلف. "فلا تزال قيم العبودية مهيمنة وإن غيرت من وجهها، ولا تزال القيم الدينية ملتبسة بالعديد من التقاليد المختلة التي لا يزكيها لا العقل ولا الدين".

في الانتخابات البرلمانية والجماعية، يتهافت الناس على بيع ضمائرهم مقابل أثمنة بخسة، في حين يهب رجل رأس المال إلى شراء البشر "كما لو كانوا نعاجا".
يقول القاص منتقدا الطقوس المصاحبة للعيد: "واه، ياه، هل نحن في حرب، عدد السكاكين والسفافيد والمناشير كبير جدا، ما الداعي لكل هذا سنويا؟ أين ذهبت الأدوات التي اقتناها الناس في الموسم الماضي أو خلال الأعوام الفائتة؟ مع العلم أن نزعة الذبح هاته تسري بين الغالبية العظمى من الناس، فما يكاد الفرد يمسك بالموسى حتى يهدد بها بائعها أو زميله في مشهد درامي عجيب... تخيلت منظر الناس وهم يزدردون اللحم وسط الدخان في منظر شبيه بتصوير مشهد سينمائي كانيبالي في عمق أدغال غابة الأمازون... يتلذذون في كل مكان بعد أن قتلوا كما هائلا من الخرفان الوديعة، منتشين مزهوين بما يأكلون ويفعلون... عادت مناظر وآثار الذبح تتكالب على مخيلتي: الدم الملبد، محتويات بطون الخراف، القرون المقطوعة، الجلود، الزوائد، المجامر المليئة بالرماد وببقايا الفحم والشحم" ص: 26.
ويضيف، مستنكرا عادات الناس الخرافية في العيد، "كم أسرة سوّدت عيني الخروف بالكحل، وقدمت له الحناء أكلا قبل الذبح؟ وكم أسرة وضع أفرادها أقدامهم في بقع دم الخروف الساخن سيرا على العادة؟ وكم من العائلات تحفظ دمه في قوارير أنيقة؟ وكم فتاة وضع أهلها الدوارة فوق رأسها طمعا في عريس مرتقب؟" ص: 29.
ويستغل القاص معرفته بالفلسفة وعلم النفس والأنثروبولوجيا ليسلط نظاراته النقدية على القيم المزيفة التي تلتبس بالعديد من قيم العقيدة والحداثة خطأ، والحقيقة أنها عادات وخرافات التصقت بالذهن البشري منذ قرون بائدة.
ويعتقد اشويكة أن سبب تغلب هذه الممارسات المغلوطة على العقل واستمرار تسربها عبر الأجيال على الرغم من التطور الذي لحق المجتمع المغربي هو كونها تشتغل في اللاوعي وتمر عبر أنظمة التفكير المطمئنة، حيث يعبد لها نسق المسلمات والبديهيات المعابر كي تقف جنبا إلى جنب مع الممارسات العلمية والحداثية والدينية، فضلا عن كون الذهن البشري للمغاربة والعرب لم يعد ولوعا بطرح السؤال وإعادة النظر في الطقوس والسلوك السائد، بل أصبح قانعا بالتلقي والاستهلاك والاطمئنان إلى المتوفر.

قصص متمردةسار اشويكة في هاته المجموعة على نهجه في التمرد على تقاليد النص القصصي عملا بمقولة المختبر التجريبي التي دأب على الاشتغال فيها منذ طلته الأولى مع نادي "الكوليزيوم" القصصي.
وقد وظف مفهوم الورشة في السرد، وجعل النصوص كلها تدخل في نظام مؤسس بشكل مسبق وفق نظرية يتصورها القاص ويهيئ سيناريوهاتها في شكل "غروغيهات" تشكيلية وتصاميم هندسية قبل أن يفرغ فيها متنه ومحتوياته التي تجمع بين السرد والنقد والتأمل الفلسفي.
ويغلب على النصوص طابع الشذرة، إذ ما فتئ القاص يُقَطعُ النص ويجزئه تجزئة ليأخذ نفسا في التأمل تارة، وتارة أخرى في الوصف أو في السخرية أو في السرد... ليعبر بذلك عن تشظي اللحظة نفسها وتشظي العالم، خاصة أنه أفرد نصا للحديث عن تفاوت الإيقاعات ومفارقاتها في هذا العالم الغريب "أوركستراي".
كما قسم المجموعة إلى مفصلين كبيرين سماهما انسجاما مع العنوان بـ"الدرجتيْن"، وهما درجة "الياء"، يقصد بها ياء المتكلم، حيث عنون كل القصص بمفردات مضافة إلى ياء المتكلم مثل: بطني، وكلماتي، ومحفظاتي، وأرقامي، وعيدي. ثم الدرجة الحامضية وتتشكل من يوميات للقاص وبورتريهات لشخوص قصصية مستمدة من المجتمع.
ويبدو من خلال النصوص أن اشويكة ظل وفيا لأسلوبه، منسجما مع فلسفته في نقد الواقع المجتمعي فاضح عيوب الصراع المرير بين الطبيعة والثقافة، وكذا في الكتابة والتمرد على عمود القصة كما حددته الأدبيات المتراكمة منذ نشوء هذا الجنس الأدبي.

تعليقات

المشاركات الشائعة